عُمَرْ أميرالايْ
لإسمهِ رَنينْ .. لِحضورِهِ رَنينْ لصَمتهِ رنينْ ولغيابهِ رنينْ
الأثنين 23 فبراير / شباط 2015 20:40
أسامة محمَّد
عُمَرْ أميرالايْ

عندما تراني أمشي مُسرعاً أو مُبطئاً ثمَّ أضحكُ فجأة . ثم أصمُتُ وأهزُّ رأسي.

أكونُ .. أتكلمُ مع عُمَرْ ... أراه وأسمعُه.
يكون هو من يتكلم الآن فأضحك.
يكون عُمر قد اكتشف بعداً آخر في الأشياء هَزَّ سلْطَتَها وهزَّأها فبَدَتْ مُضحكة .

الضحك مع عمر متعة . متعةُ حقيقةٍ جديدة تُدَغْدِغُك فتضحك.
الباب :
يرن الجرس فيفتح عمر .. يُطِلُّ بابتسامته العميقة . " أهلاً"
ثمة من يرميك ب"أهلاً " خاطفة رنانة.. تُرَحِبُ وتُرسِل في آنٍ أنها لا تنتظرك.
وثمة من يفتح لك "أهلاً" ثم يخطو نحوك ليسدَّ الباب .
تلك لُغة الجَسَدِ ونوتاتُه. مُتَعَدِدَةُ الرسائل.
حين يَفتح عُمر الباب . يتنحى عنه فوراً. يكشف الداخل ويقدمهُ لك . ويبدأ اللعب الجميل. ينفخ صدره ويرفع كتفيه العريضين ويستجمع العُرَبَ فينطق الهوى من الصدر والرئة والجمجمة والحَلْقْ " أحهلااااااااااانّْ نْ".
سوف تجلس على الديوان العربي ويجلس مقابلك ينظر في عينيك ويضحك كأنما بلا إرادة " هههه ههه" .
في السينما أو السياسة ... يخشى عمر أن يُرْسِلَ إشارتٍ توحي بالتواطؤ فيزمُّ فمه. يمسك ذقنه بكفه ويُبحر في الاستماع .. في رسالة مفتوحة على الجدل.. تدعو للبحث والصداقة.
الشارع:
يأتي متأخراً و لا يشرح . و.. ستعرف أنه جلس مقابل والدته كي لا تتناول الطعام وحيدةً . أو أنها أوقفته على الدرج في تحقيقٍ أموميّْ خوفاً منهُ عليه.
ولسوفَ يرنُّ هاتفي بعد قليل لتهمس لي : هو معك؟
في الشارع . يخطو واثقاً .. ولسوف يخطف نظره إلى الأعلى يتوقف فجأةً ويستمتع ب (النون الفارسية والكاف الكوفية و ياء الديوانيّْ و راء الرُقْعَة) . " شوف شوف "يَفْتَحُ كَفَّهُ. يفردها ويغلقها ويفرح للجمال في ماتبقى من الخطّاط " بدوي"على جَسَدِ دِمَشْق.
"شوف شوف" تمر قطة بيضاء تحت سيارة فيضحك "جميل" القط كائن جميل "شوف شوف" يبتسم لبقايا شرفة خشبية خضراء في الصالحية.
"شوف شوف" يهمس هذه المرّة يتأمل أناقة المحجبات وخروجهن من سجن النمط إلى إشاراتهن الشخصية . ويفرح لتنفس الحريّة .
"كوكب جميل".."الأرض " يقول. " شوف" " شو هالألوان".."بديع".
....
الطوفان :
في البيك آب ال " سكودا" التي تتسع لشخصين ... ترحب الروض بنا قاصدين الفرات.
" مولي ... مُليمي لا تسل عني ... " أُدندن .. " لاااااا تسل عني" فيُكْمِل " آآآآآآآآآ لا ااا تسل عني" أجيبه ..." آآآآآآآ" فَيُحَرِّر صوتَهُ عريضاً جميلاً وأتعلق في العلامات العالية ونغني " لاآآآآآآآآآآآآ تسل عَنِّيْ ي ي ي"
ثمّ نسقط في هاوية الضحك.
شجر اللوز على هضاب اليمين والزيتون على اليسار . وصدّام يُرحِبّْ من راديو ال "سكودا" بالأمريكان ويتوعدهم بالفناء والتيه في صحراء البطولة العربية " خليهم .. تاكلهم الديابه ... ههه هه" يضحك مثل فانتوماس في فيلم فرنسي قديم.
يضحك صّدام من زجاج "السكودا" وينفث ضحكه على المعرّة و حلب ومنبج وتماثيل حافظ الأسد.
نقترب من الفرات في رحلةٍ عكسية في "د. ن. أ" عُمَرْ الفيلمية هنا حيث بدأ محاولته البصرية الفريدة عن سَدِّ الفُراتْ وهنا حيث كتب معلقته الأولى "الحياة اليومية" هنا حيث اخترع لغةً أميرالايية في البحث والصوت والصورة والمقاومة.
هنا حكاية الحضارة وهنا مدفنها .هنا تَمَدَّنَ الإنسان وبدأ الزراعة. هنا معالم 11000عاماً قبل الميلاد . وهنا تختنق كلُّها غرقاً تحت بحيرة اصطناعية .
بحيرة دفنت حضارتنا الأمّْ ووعدت بحضارة الأبّْ .
"حول بحيرة الأسد يمتّد اليوم بلد اسمُه سورية الأسد"
الطوفان :
طوفان من وَحْل .. من الأفق حتى الأفق . في بلدة اسمها "مَسْكَنَه". كأننا نقف داخل لقطات من أرشيفٍ صوره عُمَرْ منذ 38 عاماً في الحياة اليومية .. هنا على بُعد عصفور من البحيرة المقدسة . في 5th" مَسْكَنَهْ ستريت".
يزمُّ عمر فَمَهُ ويهتز رأسُه ويمتنع عن تصوير كلّ هذه الغواية البصرية.
...
اليوم 5 شباط . يوم رحل عمر .
اليوم أروي عُمَر . أسائل ندرته عن كل الإغواءات التي لم يَقْبَلْ أن يصورها.
غرفة وحيدة من طين. في جوفها كل صفوف الابتدائية وثلاثون روحاً وأستاذ واحد وخلاء وهواء وبرد وعزلة . عالم صاعق وصارخ . جعل رأس عمر يَهْتَّزْ و لا يصور... لا يصوره .
لم يشأ عمر توريط العواطف والذاكرة الجمعية بأبجدية جاهزة وناصعة فعارضها. خاف من سكون اللغة . كان نداً لِكُلِّ شيء ولنفسه قبل كل شيء.
لم يُغْوِهِ فوتوغراف الهلاك . كان يبحث عن خلايا الهلاك. عن لحظة نشوئِها وانشطارها ونُمُوِّها في الحياة. وبدا أنَّ الحكمةَ أوصَلَتْ هذا المُعَلمَ الكبير للعدسة والتكوين والكادر إلى الصبر المجهريّْ . فاختار التوقف هنا .
هنا حيث قرية الماشي حيث المدرسة النموذجية(ستة غرف وإدارة وباحة) وعضو مجلس الشعب والحزب والإسفلت والهاتف .
هنا يَجِسُّ جَسَدَ الحياة و خلائط البعث في نسيجها.
البعث ! نعم ولا ... هو الاسم الحركي لوحش قاتلٍ متعدد الأنياب والظهورات . يبتلع اسمه عندما يريد ويتقيأه عندما يريد .
المُفتش العام :
في المنازلة الأولى .. بدأ عمر اكتساح البنية التحتية لقلعة البعث.. فسَحَرَ باعة البسطات والخضرجية و الحلونجية.
هنا حيث تنقطع الكهرباء فتنطفئ حرب الخليج وتأتي فيأتي الصحَّاف من الشاشة المتسخة في مطعم أبو النور.
" بتساوي كواج ؟" يسأل عُمر .
" كواج ! هههه " يسخر الَّلحام أبو النور " إنتو من الشام ؟ ليش بتعرفو الكواج ههه " هنا عاصمة الكواج يقول أبو النور . هنا بيغ بن الكواج .
حين تمتد يَدُهُ وسكيّنُه إلى العجل المُعَلَّق يصعقه عُمر " هيك بتْنْقَّصْ اللحمه ؟!".. "ابْتَعِدْ عنها .. شلون رَحْ تشوفها وإنت فايِت فيها".
يصيب اللحامَ بالشلل ويبدأ يقوده.
" ارْجَعْ نصف خطوة للوراء .. انظر جيداً إلى اللقطة العامَّة للعجل . هنا ليست لحمة كواج ... إنها هناك".ثم يبدأ يُخْرِجُ الجُمَلَ من إنفه قصيرةً حاسمه " قِصّ هون " و" هون" "اوزِنْها" "نَظْفْها من العروق "
تُصبح اللحمة هي المادة الفيلمية "ال راشِز" . ويبدأ عُمَرْ مونتاجها وحذف زوائدها . لتأخذ صيغة كَوَاجْ .
وفجأة يُشَمِّر أميرالاي الأنيق ويصوبن و يتفحص و يقطع البندورة ويدقُّ التوم. وقبل أن تدخل الصينية الفرن " يسأله أبو النور " منيح هيك إستاذ؟ " فيبتسم الاستاذ .
يَدخل الكواج الفرن . تأتي الكهرباء .. فيلعلع الصحاف .
منذ ذلك اليوم صار أبو النور يَتَنَحَّى عن السلطة كُلما جئناه.. فيبتسم بحبٍ لعمر ويشير إلى البلاط الممسوح والأواني المَجليّة والسكاكين النظيفة .
اكتسح النبأ القرية . يمرّ نبي الكواج في السوق فيتفرج السوق ويرتعد.
بعد انجازه المرحلة (أ) دَخَلَ عُمَرْ المرحلة (ب).. وكان عادلاً فعامل السَاسَةَ مثلما عامل اللحامين .
المنازلة الثانية "المضافة" :
كان الشيخ الماشي"عضو مجلس الشعب للأبد" يتصدر مضافته . يمسك سماعة الهاتف مجيبا تظلمات عشيرته بكلمة "انشالله"
بدا ليْ وكأن عمر يخاطر بفيلمه .. فلقد هزَّ "وقبل اللقطة الأولى" مُخَيّلَةَ المَضَافَة وشيخَها في قراءته ال "15 آذارية" لبُنْيَةِ السلطة الحاكمة في سورية ..فتوقف الحاضرون عن البلع.
ما زلت أتعجب كيف قبل الرجل بالتصوير مع عُمَرْ . رجلٌ يُصَلّيْ مراتٍ خمس و يدعو للرئيس والنظام عشرة مرّات . وسينمائي لا يركع لأحد .
لم يرض عُمَرْ أن تكون اللحظة وسيلة للفيلم كان واضحاً وصريحاً فَلَمَسَ انسانية الماشي ومنحه الترياق المفقود .(الماشي الذي كان يدرك بقلبه أن سلطته لا تتعدى استجداء ضابطٍ في الأمن .)
كانت كل جملة من مداخلات عمر في المضافة تكفي اللّجنة الفكرية لتمنع التصوير.
أمّ المنازلات :
سيطر عُمَرْ على المضافة. كَسَرَ قفل الخوف والمخيلة وصار شيخها الجديد . ويوماً بعد يوم . ازداد مريدوه . كانوا مقهورين عاطلين عن العمل والزواج مشردين في مطاعم بيروت والأردن وإذلال الموافقة الأمنيّة . كان الصحّاف يُدَغْدِغُ عنفهم بالتعصب العروبيّْ وَوَهْمِ القوَّة فيتدغدغون ويضحكون . نازل عُمر الصحَّاف .. فَكَّكَهُ وأزال عنه صبغة الشعر فضحكوا . انهار الصحاف أمام سخرية عمر العميقة المُحَررة . سقط تمثال صدام.
كان جمهور المضافة مداوماً على مسلسل أميرالاي المسائي .
و في تغريبته السورية .. كانَ يُحْيي إنسانيتهم فَيَسْقط ُالنظام في أرواحهم فيتنهدون الذروة . و بعد قليل يضحكون .
لَمْ تَكُنْ الحياة وسيلةً للفيلم ولا الفيلم غاية. كانت ذَرَّات العُمْرِ واحدةً في ضمير هذا الأميرالاي . يرسم بها صُورَتَهُ إنساناً حراً فريداً.
...
(بعد عرض الطوفان أعتقل عمر على حدود الأردن وأوقفَ في سجن درعا ووقع السجان في غرامه وسأله عن باريس .ثمَّ مُنِعَ لَفظ اسمه في الصحف والتلفزيون وصارَ شَتْمُهُ ... يُسَهِّلُ المرور على حواجز السينما)
قوّة القَدَرْ "فيردي " :
اجتمعت العائلة الصغيرة في بيتنا رُلا و مُنى وعِصْمَتْ وعُمَر .. وأنا و نعمى .
كان عُمر شديد الرعاية لنا جميعاً.
كان أول من اعترفتُ لهُ بِحُبّيْ لنُعمى .. وأشتعل فضولاً لمعرفة "الحسناء التي أخرجت الذئب من الغابة" وصارا يخوضان معاً في الموسيقى و الغناء . ويصف صوتها بالبديع وعلاماتِها المنخفضة العريضة بالنادرة .فأشعر بالسعادة .
امتدَّت جلسة الغداء حتى الليل في طقسٍ حميميّْ وناري ساخر ولاذع .
حاصَرَتْهُ نُعمى ودفعت به ليُغني وفعلنا جميعاً ..."جبان" صَرَخَتْ رولا. و"يالله بقى عاد" قالت مُنى. و ... وتمنّع وبرر ثم احْمَّرَ وجْهُهُ فجأة وفعلها وغنّى"قوّةَ القَدَرْ " تفرجنا على صوته يوسع الفراغ ويسحرنا . ثم صمت و خَجِلَ .
تَكَشَّفَ عُمَر عن "باريتون " حقيقيّْ .
غَمَرَتهُ المتعةَ والسعادة. فأفصح عن جرأة نادرة . وتعاهد ونُعمى على حفل أمام الجمهور .
هذا ليسَ مُجَرَدْ جرأة .إنّه سرّ عمر. إنه الحُبْ حُبُّ الآخرين . حُبُّ التواصل والمواجَهة والعطاء .
تلك كانت مفاجئتنا المخبأة لدمشق .
حين خرجوا ليلاً .. انهارت نُعمى بكاءً عَجيباً وصَرَخَتْ"لا تموتوا" " قُلُّن لا يموتو"
وأعادت عمر من باب المصعد .. وطلبت منه ألا يموت.
فقال معاتباً " نَعّْومْ ... ههه " وابتسم ..فلم تقبل.
و قبل أنْ يُغادر تعهد أمامنا "ألا يموت"
لإسمه رنين .
صفقنا لهُ .. طائراً فوق الأَكُّفِ ... قوّةَ القدَرْ .
رحل "عُمَرُنا" قَبْلَ أنْ يرى مُخَيّلَتَهُ .
هذا الذي اسمه الشعب السوري الساحر الشجاع الذكي المُبدع الكريم الإنساني الحرّْ.
كل هؤلاء الذين في مكانٍ ما يُكملون حَديثاً كنتَ قَدْ بدأت.
لغيابه رنين . عُمَرْ أميرالاي.




أخر ما نشر