عندما يصبح التاريخ عقبة في طريق التقدم
الأربعاء 21 سبتمبر / أيلول 2016 20:05
توفيق الحلاق
ذات مساء، وكان ربيع دمشق قد أفسح المجال عام 2000، لإعادة الحياة إلى الصالونات الأدبية والثقافية والسياسية، كانت فترة قصيرة تشارك في وأدها أمن الأسد وبقية السلطة الظلامية المتوحشة، في تلك الفترة القصيرة، فتحت السيدة جورجيت عطية صالونها الأدبي في دمشق، حيث توافد المثقفون والفنانون والصحافيون، وكنت منهم، دار الحديث يومها حول مسلسل تاريخي عرضه التلفزيون السوري من بطولة جمال سليمان وإخراج حاتم علي، ولأنني كنت أظن -كما غيري- في تلك الفترة أن أبواب الحرية أصبحت مشرّعة، فقد قلت لصديقي جمال وللمخرج حاتم: أرى في المسلسلات التاريخية لغة لا يحبها الصغار وتشوه أفكار الكبار، حول معنى البطولة، وهي لا تستقطب المشاهدين، على الرغم من تكلفتها العالية، بينما يتابع معظم الجمهور المسلسلات الاجتماعية التي تحكي عن الواقع أكثر.

لاحظت، وأنا أتحدث، أن أعين جمال وحاتم كانت تشي -سلفًا- برفضهما ما أقول، حتى أن حاتمًا وصفني بالصحافي الذي يضع العصي في عجلات الناجحين، قلت: لا بأس. ها نحن نمارس حريتنا في النقد باحترام، ولكل رأيه ومزاجه. لكن ذلك الحوار أفضى إلى نوع من القطيعة بيننا استمر طويلًا.

أعود لأتحدث عن مزاجي الشخصي، ولكلٍّ مزاجه، أنا لا أحب أزياء التاريخ الحربية، ولا الأسلحة والمعارك التاريخية البعيدة، ربما تريحني أكثر المسلسلات التي تسرد عن التاريخ القريب، مثل معركة ميسلون، ومعارك الثورة السورية الأخرى ضد الاستعمار الفرنسي، أحسّها أقرب إلى الحقيقة، ولها تأثير نفسي، يُشعر المشاهد بقدرته على محاكاة أولئك الأبطال، من آبائه وأجداده القريبين، أحب الأزياء التاريخية التي كان الناس يلبسونها في الأعياد وفي حفلات الزواج، ولا أحب الاستغراق في الحديث عن السلف الصالح، بل أحب القليل من الحِكَم التي وردت على ألسنتهم، أحب أن أقرأ كل يوم عن إنجازات العلوم والفلسفة والأدب والفنون الجديدة، أحب أخبار الأمهات السوريات البطلات، وقصص تضحياتهن في خضم المأساة السورية، أكثر من استعادة قصة الخنساء ألف مرة، لا أحب الأناشيد المرافقة لأخبار المعارك، بل أحب الأناشيد الوطنية مع الموسيقا، أنتشي لرؤية الورود، وهي تزين قبور الشهداء، أكثر من الآس الذي ينفرد وحده في تزيين كل القبور بلون واحد.

معضلة العربي، والسوري بشكل خاص، أنه فصل نفسه عن الواقع؛ ليعيش في الماضي، خالد ابن الوليد لم يك أفضل حالًا من أبي فرات[!]، العقيد المنشق ابن جرابلس، والخنساء التي فقدت أخويها: معاوية وصخرًا، قبل الإسلام، ثم أبناءها الأربعة بعد الإسلام، في معركة القادسية عام 638، ليست امرأة لا تتكرر، فقد تكررت عشرات المرات في أمهات، فقدن ستة أو سبعة من أبنائهن خلال الثورة السورية، وتحوّلن إلى ممرضات وطباخات في خدمة الثائرين، مثل خنساء دير الزور التي فقدت سبعة من أبنائها، وقالت: والله، لو أن لي طفلًا في العاشرة لأرسلته لمحاربة الأسد.

لقد "احتل” العرب الأندلس 781 عامًا، بدءًا من عام 711، وحتى عام 1492، ثم خرجوا بفعل "نضال” الإسبان، لاسترجاع "وطنهم السليب”، فيما لا يزال المسلمون والعرب يعدّون الأندلس وطنهم المُضَاع، وخمس غزوات خاضها الرسول محمدًا، واستغرقت كلها أقل من خمسة أيام، مع ذلك عدّها المسلمون كل تاريخ نشأة الإسلام، وبعضهم لا يزال يستنبط منها الحكمة في إدارة حرب سورية الضروس، منذ خمس سنوات، بل إن فيلم الرسالة الذي أخرجه مصطفى العقاد، أكدَّ هذا النمط من التأريخ، كما فعلت معظم المسلسلات التاريخية الدينية.

لا يمكن للتاريخ أن يتكرر، فلكل زمن ثقافته ومحدداته وأدواته، قد تجد حكمة أو قولًا أو قصيدة تُحاكي رغبات الإنسان في كل زمان ومكان، مثل: الكرامة والحرية والسلام، لكنك لا تستطيع استخدام قوانين الزمن الماضي في الحاضر، لا يمكنك استخدام مفردة "غزوة” بديلة عن مفردة معركة؛ لأن المدلول والهدف والطريقة مختلفة كليًا، ومفهوم "غنائم الحرب” لا يمكن استخدامه اليوم؛ لأنه كان يعني -أيضًا- استرقاق الناس وتحويلهم إلى عبيد وإماء وسبايا.

عندما أنتج التلفزيون الأميركي مسلسل "الجذور”، الذي روى قصة اختطاف الشباب الأفارقة من بلادهم، وتحويلهم إلى عبيد عند المستعمرين الأوروبيين لأميركا، كان يهدف إلى توثيق مرحلة مظلمة من تاريخ الأميركيين، يجب ألا تتكرر، وليس للاستفادة من خبرة المستعمرين في الخطف والتعذيب.

الأحاديث التي نُقلت عن الرسول العربي بلغت خمسين ألفًا، ثم اختصرت إلى خمسة آلاف، ويمكن اختصارها مرة أخرى إلى خمسمائة، بسبب "تضاربها” مع القرآن من جهة، ومع الواقع أكثر، مثل: "ما أفلحت أمة حكمتها امرأة” [نص الحديث: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً. المحرر]، احتفاء العرب والمسلمين بالماضي أوصلهم إلى تكرار الكلام نفسه، والأفعال نفسها منذ خمسمئة عام وأكثر، ما جعل الاحتفاء بالواقع المتطور أمرًا منكرًا من خلال نظاراتهم القديمة والسميكة.

لقد استقلت سورية -مثلًا- عام 1946، وساهمت مع خمسين دولة في تأسيس جمعية الأمم المتحدة، وكان يمكنها أن تتطور سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وعلميًا، كما فعلت كوريا الجنوبية واليابان مثلًا، اللتان استقلتا في الفترة نفسها، ووضعتا تاريخهما في المتاحف [!]، ثم صنعتا مجد الحاضر بأدواته وعلومه وفلسفاته، التاريخ بما هو ماضٍ، لا يمكنه أن يصنع حاضرًا معاشًا، بل يمكن لبعضه أن يُشكّل مثالًا وحافزًا وأساسًا للتقدم، وليس للمراوحة أو التقهقر.



أخر ما نشر