مركز حرمون للدراسات الإستراتيجية ، مجزرة الكيمياوي
الأثنين 26 سبتمبر / أيلول 2016 20:13
مركز حرمون للدراسات الإستراتيجية ، مجزرة الكيمياوي
مقدمة

ما زالت ذكرى مجزرة الكيماوي التي ارتكبها النظام السوري بحق السوريين في غوطة دمشق، تُشكّل جريمة كبرى من الصعب أن يتجاوزها الزمن، لأنها لا تسقط بالتقادم، وما زال الشعب السوري يعيشها في كل تفاصيلها، يعتصره الألم، ويعيد تأكيد حقه في محاسبة الجناة، وصوابية خروجه للثورة، ضد جلاديه الذين لم يتردّدوا في استخدام الأسلحة الكيماوية ضده، جلادين لا يملكون قيمًا أخلاقية أو إنسانية، ولا يأبهون لقانون دولي أو إنساني، ويمارسون القتل والتدمير أمام مرأى العالم أجمع، من دون اكتراث لمجتمع دولي وقف صامتًا يراقب قصة زوال شعبٍ من شعوب العالم.

 

كانت "مجزرة” الكيماوي الكبرى في آب/ أغسطس 2013، هي الجريمة التي تجاوزت كل الحدود، وتخطت جميع الخطوط الحمراء التي وضعها الرئيس الأميركي باراك أوباما للنظام السوري، وقد تبيّن أن تلك الخطوط كانت تهديدًا لفظيًا فحسب، غايته نزع الأسلحة الكيماوية من النظام السوري، لا حماية السوريين منها.

 

أولًا: الجريمة

وقعت مجزرة الكيماوي في ريف دمشق في 21 آب/ أغسطس 2013، حيث انطلقت صواريخ من منطقة قريبة من جبل قاسيون الواقع شمالي العاصمة السورية ، وتتركز فيه وحدات غير معروفة العدد، تابعة في أغلبيتها العظمى لقوات الحرس الجمهوري، كما تتمركز فيه مدفعيات ثقيلة وراجمات صواريخ أنهكت ريف دمشق بالقصف اليومي والمتواصل الذي لم يتوقف يومًا منذ خمس سنوات؛ لكن هذه المرة، كانت الصواريخ برؤوس كيماوية لا تقليدية، تسببت في مقتل نحو 1450 شخصًا، موثّقين بالاسم والصورة، معظمهم مدنيون من الأطفال والنساء، في زملكا والمعضمية وكفر بطنا ودوما وجسرين وعربين، قضَوا بعد تعرضهم لاختناق وتسمم ناتجَين عن موادّ سامة غير تقليدية، ألقيت فوق رؤوسهم وهم نيام.

 

التقارير التي قدّمتها منظمات سورية ودولية، تُشير إلى أن المنطقة التي انطلقت منها الصواريخ هي منطقة عسكرية فوق جبل قاسيون، تحوي مركزًا للبحوث العلمية، يُعَدّ مؤسسة بحثية عسكرية تشرف عليه وزارة الدفاع السورية، ويضمّ مخابر لتطوير الأسلحة، التقليدية وغير التقليدية، كما تشير تقارير أخرى إلى انطلاق صاروخ واحد على الأقل من مطار المزة العسكري الذي تتخذه قوات النظام مركزًا ضخمًا لعملياتها العسكرية والحربية والأمنية.

 

منظمة (هيومن رايتس ووتش) أكّدت في تقرير موسّع استخدام كميات كبيرة من (غاز السارين) في أثناء الهجوم، وأشارت إلى أن حمولة كل صاروخ تجاوزت الـ 55 ليترًا، وأكّدت أيضًا أن شكل الصاروخ المُستخدم متميز، ولم يُرَ مثله خارج سورية، وأوضحت أن لديها صورًا سابقة لمثل هذا النوع من الصواريخ الموجود في حوزة الجيش السوري، ما يؤكد بالنسبة إلى المنظمة، وبما لا يدع مجالًا للشك، أن النظام السوري هو من استخدم هذه الصواريخ.

 

هذا التقرير الذي قدّمته المنظمة الدولية، هو واحد من تقارير عديدة وكثيرة، قدّمتها منظمات سورية محلّية، وأخرى دولية، وحتى منظمات أممية، كان آخرها تقرير لجنة التحقيق الخاصة التي أقرتها الأمم المتحدة، وقدّمته في آخر آب/ أغسطس الماضي إلى مجلس الأمن، والذي أكّدت فيه بدورها أن "الحكومة” السورية استخدمت الأسلحة الكيماوية في الغوطة، وأنها استخدمتها مرتين على الأقل في العامين الماضيين، في خرق لتعهداتها بتدمير ترسانتها من تلك الأسلحة؛ وقال التقرير إن هناك معلومات كافية تشير إلى أن الطائرات المروحية التابعة لقوات النظام أسقطت أجهزة أطلقت لاحقًا غازًا سامًا على "تلمنّس” في إبريل/ نيسان عام 2014 و”سرمين” في مارس/ آذار 2015 في محافظة إدلب، واستُخدم غاز الكلور في الحالتين.

 

حدثت "مجزرة” الغوطة الكيماوية بعد ثلاثة أيام فقط من وصول بعثة مفتشين دوليين إلى دمشق، ما يُشير إلى استهتار النظام السوري بكل القوانين الدولية والأممية، حيث تم إطلاق ستة عشر صاروخًا، من نوع أرض-أرض مُحمّلة بغازات سامة من نوع غاز السارين، ليكون تمهيدًا لاقتحام هذه المناطق المستعصية على النظام، وكانت مستمرة في مقاومة قواته وحربه.

تقرير المفتشين الدوليين التابعين للأمم المتحدة الذي صدر في 16 أيلول/سبتمبر 2013 لم يُحمّل مسؤولية الهجوم لأي جهة أو طرف، واكتفى بوصف الهجوم بأنه "جريمة خطيرة” وشدّد على ضرورة تقديم المسؤولين عنها إلى العدالة في أقرب وقت ممكن، مشيرًا إلى أنه تم بوساطة صواريخ أرض-أرض أُطلقت بين الثانية والخامسة صباحًا، ما جعل حصيلة الضحايا كبيرة جدًا، حيث كان الناس نيامًا، وخصوصًأ أن النظام استخدم صواريخ خاصة في الهجوم من النوع الذي لا يُصدر صوتًا عاليًا بعد انفجارها، ولا يُخلف أضرارًا على المباني، بل تخنق الأنفاس وتدمر الأعصاب.

 

ثانيًا: النظام يحاول التهرب

التصريحات الغريبة، والمتناقضة أحيانًا، التي صدرت عن النظام ومسؤوليه، زادت في حينها الشكوك فيه، وخلقت لدى بعض المتابعين قناعةً كاملة بأن النظام هو الذي قام بالجريمة، هذا قبل أن يصدر أي تقرير حول هذا الأمر. فقد أدلت بثينة شعبان، المستشارة السياسية والإعلامية للأسد، بتصريحات منفصلة عن الواقع، وألقت التُّهم جزافًا ضد المعارضة، وأوردت سيناريو قصة (سريالية) في محاولتها ردّ تهمة ارتكاب مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية بدمشق عن النظام، وقالت: "المعارضة السورية هي المسؤولة عن هذه الجريمة، وقد قامت بخطف أطفال ورجال ونساء من قرى في اللاذقية، وأحضرتهم إلى الغوطة بدمشق، وقامت بوضعهم في مكان واحد، واستخدمت ضدهم الأسلحة الكيماوية”، في محاولة منها للإيحاء بأن ضحايا المجزرة هم من "الطائفة العلوية”، وقد قادتهم المعارضة -بحسب قولها- بالمئات من قرى اللاذقية، مع العلم أنها تبعد أكثر من 400 كم عن الغوطة، ويحتاج الآتي منها ليصل إلى الغوطة أن يعبر عشرات الحواجز والكتائب الأمنية التابعة للنظام ولحزب الله اللبناني. وكان هذا التصريح الغرائبي دليلًا مسبقًا بالنسبة إلى كثيرين بأن النظام مُتورط بالجريمة.

 

تبع تصريحَ شعبان تصريحٌ مشابه للأم أغنيس مريم الصليب الموالية للنظام حتى النخاع، لكنها هي الأخرى أوردت قصّة سريالية أيضًا حين قالت إن كل ما عُرض هو جزء من أفلام تمثيلية قامت بها المعارضة السورية، وأن شيئًا لم يحدث في الغوطة، وقالت: "هناك فبركة صُورية في حادثة السلاح الكيماوي بريف دمشق، وهي مسبقة الصنع”، وأوضحت أيضًا: "هناك انتقاء لصور الأطفال التي تم عرضها بعد حادثة الكيماوي، فلا يبدو أن آباءهم وأمهاتهم معهم”، وقالت: "إن من يظهر في الأفلام لا يبدو عليه الحزن”، وتجاهلت كلّيًا وجود وثائق بالاسم لجميع الضحايا، كما تجاهلت مئات الأفلام التي تُصوّر عملية دفن هؤلاء الأطفال في قبور جماعية.

 

ثالثًا: روسيا تمدّ حبل النجاة

مع شعور روسيا بأن التهديدات الأميركية أضحت جدية في قصف النظام السوري، سارعت للخروج من هذه الأزمة بصيغة توافقت فيها مع الأميركيين، فكانت المبادرة الروسية حول نزع الأسلحة الكيماوية السورية لتجنب عمل عسكري، وجاءت المبادرة الروسية مخرجًا للرئيس الأميركي باراك أوباما من مأزق خطه الأحمر. لكن الرئيس أوباما شدّد في المقابل على "مواصلة الضغط على الأسد”، في حين تم العمل على المبادرة الروسية بشأن نزع الأسلحة الكيماوية، حيث وصف أوباما المبادرة الروسية بتخلي الأسد عن مخزونه من الأسلحة الكيماوية بـ "التطور الإيجابي”، وأكّد أن إدارته "ستأخذها بالجدية اللازمة”، وأشار إلى أن ما تمت ممارسته من جانب إدارته على النظام السوري "كان وراء التوصل إلى مثل هذه التطورات الإيجابية” الخاصة بالأسلحة الكيماوية، ثم وجه -حينئذٍ- رسالة رخوة إلى النظام السوري قال فيها: "على الأسد أن يتوقف عن استعمال الأسلحة الكيماوية، وعليه أن يعرف أن ما قام به خطِر للغاية”.

 

في النتيجة، وافق الأميركيون على العرض الروسي حول تسليم النظام السوري أسلحتَه الكيماوية مقابل وقف الضربة العسكرية المحتملة، ليخرج وزير الخارجية الأميركي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف معًا للإعلان عن قبول النظام السوري وضع ترسانة سورية من الأسلحة الكيماوية تحت مراقبة وسيطرة دوليتين لإتلافها.

 

حاول الأميركيون نفي أن يكون ما حصل صفقةً للخروج من أزمة الخطوط الحمراء، أو أن هدفها فقط تجريد النظام من السلاح الكيماوي بناءً على طلب إسرائيلي؛ فيما أعلن النظام السوري أنه سيسلّم الأسلحة الكيماوية بسبب حرصه على مواطنيه، في تصريح غريب يتناقض تمامًا مع الواقع أطلقه وزير الخارجية وليد المعلم من موسكو قال فيه "إن القيادة السورية تُرحب بالمبادرة الروسية انطلاقًا من حرصها على أرواح مواطنيها وأمن بلدنا، ومن ثقتنا بحرص القيادة الروسية على منع العدوان على بلدنا”!

 

في الخلاصة، كان الهدف الأساس، والوحيد، من الصفقة التي رعاها الروس بين النظام السوري والأميركيين، هو تجنيب هذا النظام القصفَ الذي كان الأميركيون على وشك القيام به لإنقاذه ورأسه من العصا الأميركية.

 

رابعًا: كل الكيماوي أم بعضه

إبّان متابعة النظام من أجل تسليم أسلحته الكيماوية، وقبل ذلك، وعندما شعر بالخطر وبالجدية في سحبها منه، راح يبحث عن مراكز وأماكن آمنة يُخبئ بعضها فيها، عسى أن يحتاجها في المستقبل؛ ونُشِرت تقارير إعلامية كثيرة، أيدتها بعض المنظمات الحقوقية السورية، أشارت إلى أن النظام السوري قد خبأ بعض الصواريخ ذات الرؤوس الكيماوية في معسكرات لحزب الله في لبنان، وقالت تقارير استخبارية أميركية "لقد دسّ النظام السوري بعيدًا مخابئ لغاز الأعصاب الأشد قتلًا، حتى من تلك التي تخلى عنها”، وأكّدت أن هذه الأسلحة "توجد حاليًا تحت يد حزب الله”، وكشفت عن تكتم المفتشين الدوليين والقوى العالمية، وعدم ضغطهم على النظام للحصول على المزيد من المعلومات، أو للتحقق من صحة البيانات التي قدّمها عن مخزونه الكيماوي، وسط مخاوف أن يُعيد الأسد النظر في المناقصة العالمية لتخليص سورية من ترسانة الأسلحة الكيماوية؛ وكان النظام وفق التقارير الأممية قد اعترف وسلّم 1300 طن من المواد الكيماوية، فيما تقول تقارير إن هذه الكمية تعادل 75في المئة فقط من مخزونه.

 

خلصت وكالة الاستخبارات المركزية إلى أن صورة الاستخبارات قد تغيرت، وأنه كانت هناك مجموعة متزايدة من الأدلة على أن الأسد أخفى مخابئ المواد الكيماوية المحظورة، ويرى بعض المتابعين أن الأسد قد يكون أخفى بعضًا مما لديه منها؛ لاستخدام احتياطاته السرية للدفاع عن معاقل النظام في حالات الضرورة القصوى، أو أنه منحها لحزب الله كهدية ليبقى قوة إقليمية مشاغبة يُحسب حسابها.

 

في عقب تسليم هذه الكمية من الأسلحة الكيماوية للأمم المتحدة، قال البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية إن مهمة استلام الأسلحة الكيماوية "كانت ناجحة، حتى وإن خبأ النظام بعض المواد الكيماوية القاتلة”، وأكّد مسؤولون أميركيون أن الوضع الأمني "قد يكون أكثر خطورة اليوم، لو لم تتم إزالة هذه الكمية من المواد الكيماوية”، وفي هذا السياق قال توماس كونتريمان، مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الأمن ومنع الانتشار النووي الدولي "من المهم المحافظة على المنظور أن أخطر هذه الأسلحة غير الإنسانية لم تعد في يد هذا الديكتاتور” في إشارة إلى الأسد.

 

خامسًا: لا أحد يكترث

من المؤسف أن ردّات الفعل الدولية، وأولها من الولايات المتحدة الأميركية، كانت ضعيفة ورخوة، وهو ما ساهم في تملص النظام حتى الآن من المسؤولية القانونية عن هجومه الكيماوي الكبير والخطِر.

 

ردّات الفعل المُستهترة، من جانب الولايات المتحدة وأوروبا عمومًا، على الهجمات الكيماوية الصغيرة التي جاءت قبل هجوم آب/أغسطس 2013، كانت قد أغرت الأسد في مجازفة -محسوبة النتائج كما تبين لاحقًا- بالتقدم خطوات في استخدام الكيماوي على نطاق أوسع؛ والحقيقة أنه، بمرور المجزرة الكبرى دون عقاب، يكون النظام، ومعه إيران، قد حصلا على ما يريدان من تهديد مباشر للشعب السوري بألّا محظورات قانونية أو إنسانية في حربهما ضدّه، كما حصلا على ما يشبه الضوء الأخضر من الإدارة الأميركية لاستخدام جميع أنواع الأسلحة، بما فيها أسلحة الدمار الشامل، في حربهما في سورية، حيث لا يمكن للأميركان ادّعاء التفاجؤ بالهجوم الكيماوي على الغوطة، لأنها لم تكن المرة الأولى.

 

كثرت قبل ذلك التهديدات الأميركية التي لم تؤدّ إلى شيء، وكان أوباما قد صرّح في كانون أول/ ديسمبر 2012 بأن "الولايات المتحدة لن تقبل أن يستخدم النظام السوري الأسلحة الكيماوية، وستكون هناك تبعات لاستخدام كهذا”، وبدلًا من التزام النظام تعهداته تجاه عدم استخدام هذه الأسلحة، أو خوفه من استخدامها، تشير الوقائع إلى زيادة معدل استهدافه للمدنيين واستخدامه أسلحةً كيماوية جديدة ضدّ السوريين.

 

قبيل مجزرة الغوطة الكيماوية، كانت احتمالات لجوء النظام إلى السلاح الكيماوي بشكل واسع تزداد مع التقدم المطرد لقوى الثورة السورية وتقهقر قوات النظام، واعترف النظام السوري بامتلاكه الأسلحة الكيماوية في 23 تموز/ يوليو 2012 على لسان المتحدث باسم الخارجية السورية آنذاك (جهاد مقدسي) عندما أكد أن النظام "لن يستخدم أي سلاح كيماوي أو جرثومي إلا في حال تعرضه لاعتداء خارجي”، وكان هذا أول اعتراف رسمي مُبكّر منه بوجود ترسانة من الأسلحة الكيماوية لديه.

 

استخدم النظام السوري السلاح الكيماوي في قصف عدة مناطق ومدن سورية قبل آب/أغسطس 2013، في ريف دمشق (العتيبة، عين ترما، داريا، وبلدة الطيبة)، والشيخ مقصود في حلب، وسراقب في إدلب، وجوبر ومخيم اليرموك بدمشق، ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 33 هجومًا بالغازات السامة في الفترة الممتدة من 23 كانون أول/ديسمبر 2012 إلى 27 أيلول/سبتمبر 2013؛ أي أن النظام استخدم الكيماوي 30 مرة على الأقل أمام أنظار العالم أجمع قبل آب/أغسطس المشؤوم، ومع ذلك لم يُبذَل أي جهد لمنعه من ارتكاب مجزرته التي جاءت بعد ذلك.

 

حالة التجييش ضدّه كانت تسمح بابتكارات أخرى، غير العمل العسكري، لردعه ومعاقبته، إلا أن ذلك لم يحصل، فكان التراجع الأميركي والغربي كارثيًا على السوريين. ولا تتمثل خطورة ما حصل بعد مجزرة الغوطة بعدم وجود ردّ دولي رادع للنظامفحسب ؛ بل بالسماح له بمتابعة هجماته وابتكار أساليب تدمير وقتل جديدة، على رأسها البراميل المتفجرة العشوائية التي تجاوز معدل استخدامها اليومي مائة برميل، والتي لا تختلف كثيرًا -مع كثافة استخدامها- عن أسلحة الدمار الشامل، كما زاد من معدل استخدامه غاز الكلور السام، وهذا ما دفع صحيفة (الواشنطن بوست) إلى القول إن أوباما "أعطى الأسد تفويضًا لاستخدام الأسلحة الكيماوية مرة أخرى”.

 

الموقف الأميركي كان مخزيًا، سواء في النظر إليه من جهة القانون الدولي، أم من ناحية إنسانية عامة، وحتى من ناحية سياسية دولية، فضلًا عن استمرار منع "المعارضة المسلحة”، بأشكالها وانتماءاتها كافة، من امتلاك أسلحة رادعة للنظام، وأدى إلى نتائج كارثية على الشعب السوري.

 

سادسًا: جريمة لا تتساقط بالتقادم

القانون الدولي والإنساني يشيران إلى أن مثل هذه الجرائم لا يمكن أن تتساقط بالتقادم، وهذا ما يدفع السوريين دائمًا إلى مطالبة المجتمع الدولي لتقديم الجناة في سورية إلى العدالة، لأنهم تورطوا في استخدام سلاح محرم دوليًا، كما تورطوا في قتل أكثر من نصف مليون سوري منذ آذار/مارس 2011 وحتى اليوم، فضلًا عن تشريد الملايين بين الداخل والخارج، في دول الجوار ودول العالم. جرائم النظام ضد المدنيين بدأت قبل الكيماوي وبعده، عبر قصف الأحياء والمدن بالقنابل والبراميل المتفجرة التي أبادت قرى وأحياء بأكملها وجعلتها أثرًا بعد عين.

 

وعلى الرغم من أن القرار 2209 الصادر عام 2015 عن مجلس الأمن الدولي يشير إلى منع الحكومة السورية من استخدام الأسلحة الكيماوية أو استحداثها أو إنتاجها أو حيازتها، بأي طريقة، أو تخزينها أو الاحتفاظ بها، أو نقلها بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى دول أو جهات أخرى، وإقراره بأن استخدام النظام أي أسلحة كيماوية سيُعدّ انتهاكًا للقوانين الدولية، وأن من يستخدمها سيُحاسب؛ وعلى الرغم أيضًا من تلويح القرار باستخدام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لوقف هذه الانتهاكات، وهو الفصل الذي يسمح باستخدام القوة لتطبيق القانون الدولي، إلا أن النظام السوري لم يأبه لكل ما سبق، واستمر في استخدام السلاح الكيماوي من دون أن يرمش له جفن.

 

وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 139 هجومًا بأسلحة كيماوية بعد صدور القرار 2118 المتعلق بنزع السلاح الكيماوي من يد النظام، والذي صدر عن مجلس الأمن في 27 أيلول/ سبتمبر 2013، كما وثقت 33 هجومًا منذ بدء الثورة السورية من دون معاقبة أيٍّ من المسؤولين عن هذه الهجمات. كذلك؛ يُعدّ استخدام غاز الكلور "انتهاكًا للقرارين 2118 و2209 معًا”، وللاتفاقية التي وقعها النظام في 14 أيلول/ سبتمبر 2013 التي تقضي بعدم استخدام الغازات السامة وتدميرها.

 

وتؤكد جميع الدلائل أن النظام السوري انتهك مرارًا قرارات مجلس الأمن، ومنها القرار رقم 2118 ورقم 2209 ورقم 2235، ولم تنفذ روسيا تعهدها للولايات المتحدة ردع هذا النظام، كما أن الولايات المتحدة لم تفعل شيئًا أمام تكرار استخدام الغازات السامة. وتشير المادة الخامسة من نظام المحكمة الجنائية الدولية، وهي التي تختص بمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الأشد خطورة، إلى أن العقوبات تشمل جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم الحرب، التي تُعدّ انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، ولا تسقط بالتقادم، بغض النظر عن موقع من ارتكبها، سواء أكان رئيسًا أم قائدًا عسكريًا أم مدنيًا، وتنصّ المادة 29 من نظام المحكمة على أنه "لا تسقط الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة بالتقادم أيًا كانت أحكامه”، وتشدِّد اتفاقيات القانون الدولي الإنساني على مساءلة مجرمي الحرب، مهما كانت جنسيتهم أو مكان ارتكابهم هذه الجرائم.

 

سابعًا: تبديد المال

عمل النظام السوري طوال حكم الأسد الأب والابن على تبديد اقتصاد سورية واستنزافه بحجة بناء توازن عسكري مع إسرائيل، أو ما كان يدعوه بـ "التوازن الإستراتيجي”، وتبين فيما بعد أن هذا التوازن وهمي، وأن هدف النظام هو بناء ترسانة عسكرية ضخمة وخطِرة ليحمي نفسه من الشعب، وليضمن بقاءه في السلطة شموليًا وحيدًا مستبدًا، وبنى ترسانته من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية وأسلحة الدمار الشامل، ليس لمواجهة إسرائيل، إنما ليقتل شعبه في وضح النهار من دون رادع.

 

وصرف على مدى أربعة عقود نحو 70 في المئة من ميزانية الدولة على الدفاع، وعلى شراء الأسلحة وتضخيم ترسانته العسكرية، بما فيها من أسلحة تقليدية، وأسلحة إستراتيجية من صواريخ بالستية وغيرها، وأسلحة غير تقليدية كالأسلحة الكيماوية والجرثومية التي كانت تعَدّ من أسرار الدولة، ولا يعرف السوريون عنها شيئًا. وترافقت هذه الصفقات التسليحية مع عمولات ضخمة، توَزّعها رموز النظام وكبار ضباطه والمقربون من عائلة الأسد، أرهقت الميزانية، وأدت إلى تدنى مستوى المعيشة لدى السوريين، حيث كان متوسط الدخل السنوي للفرد في سورية هو الأقل في الإقليم، بل حتى أقل من الدخل السنوي للفرد في لبنان الذي عاش حربًا أهلية أثرت فيه لعقود.

 

كذلك، بدّد النظام السوري في حربه الأخيرة على الشعب معظم احتياطي سورية من النقد الأجنبي الذي كان يفوق 18 مليار دولار قبل بداية الثورة السورية عام 2011، يُضاف إليها عشرات مليارات الدولارات التي تسلمها خلال السنوات الماضية من حلفائه على شكل هبات أو مساعدات أو قروض لدعم حربه، مقابل ضمانات وصل بعضها إلى حدّ رهن مباني الدولة وعقاراتها وأملاكها العامة كضمان للتسديد.

 

لعلّ السبب الأساسي الذي ساعد في بقاء النظام على الرغم من كل هذا الخراب الاقتصادي، هو تركيبته الأمنية والقمعية التي تتلاقى مع محدّدات الأنظمة الديكتاتورية الشمولية، على الرغم من حالة العقوبات التي يدفع ثمنها الشعب وليس النظام، كما هو حال كل هذه النظم القمعية، من نظام القذافي في ليبيا وصولًا إلى نظام علي عبد الله صالح في اليمن وسواهما.

 

على الرغم من جميع النفقات الهائلة هذه لبناء ترسانته الكيماوية، إلا أنه تخلى عنها في النهاية مقابل كرسيه وبقائه كنظام يخدم مشاريع أخرى إيرانية وروسية وغيرها. كما راح يُرتّب ديونًا كبيرة على كاهل الدولة السورية من أجل مشاريعه الشخصية، ومشاريع حمايته. وهناك تساؤلات مشروعة حول مدى مسؤولية الشعب السوري عن هذه الديون، وفيما إذا كانت ستسقط بسقوطه أم لا.

 

وما زال النظام يستخدم الأسلحة المحرمة دوليًا، حتى بعد أن سلّم ما سلّمه من أسلحة كيماوية. فقد أكدت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية في تقرير قدّمته إلى مجلس الأمن نهاية آب/أغسطس الماضي أن مفتشي الأسلحة الكيماوية "لديهم معلومات تفيد بأن موادّ كيماوية شبيهة بغاز الكلور ما زالت تستخدم خلال الحرب في سورية ضدّ المدنيين”، كما أشارت إلى أن النظام السوري استخدم السلاح الكيماوي وغاز الكلور السام أكثر من مرة مؤخرًا، ودعت إلى تدخل دولي لمحاسبة من استخدم هذه الأسلحة من داخل النظام.

 

يخشى السوريون ألّا يستطيع مجلس الأمن الدولي التوصل إلى اتفاق يقضي بفرض عقوبات على النظام، لاستخدامه أسلحة كيماوية، بسبب تشكيك روسيا في الدليل الذي قدمته اللجنة المستقلة، والذي توصّلت فيه إلى أن القوات الحكومية وراء هجومين من هذا النوع على الأقل.

 

وعلى الرغم من أن بريطانيا وفرنسا تدعوان مجلس الأمن إلى فرض عقوبات على سورية، لكن روسيا تضع ثقلها كله في الموضوع لمنع أي عقوبة تُفرض على النظام. وقالت روسيا في آخر اشتباك لفظي في مجلس الأمن "من الواضح أن هناك دخان مسدس، ولكن لا توجد بصمات على المسدس، وبالتالي لا يوجد من تُفرض عليه العقوبات، فالتقرير لا يحوي أسماء ولا وقائع محددة”.

 

من المفيد التنويه بأن مجلس الأمن الدولي يمرّ هذه الأيام أمام اختبار قانوني وأخلاقي صعب، فبعد أن قدمت اللجنة الدولية المكلفة بالتحقيق في تسع هجمات محدّدة استُخدمت فيها أسلحة كيماوية في مناطق متفرقة من سورية، تقريرها الذي جاء فيه أن النظام مسؤول عن هجوميين من أصل ثلاثة وأن (داعش) مسؤول عن هجوم واحد، في حين لم تتمكن من التحقق من الهجمات الست الباقية بسبب الأوضاع الأمنية السائدة، فإن السؤال المطروح يدور حول الموقف الذي سيأخذه المجلس.

 

ويبدو أن روسيا ستغامر بمسؤولياتها الدولية كعضو دائم وتنقذ النظام السوري مجددًا؛ فهل تشرعن روسيا وبقية الدول دائمة العضوية استخدام أسلحة الدمار الشامل، حيث يصبح أمرًا مقبولًا حدوثه؟!

 

ثامنًا: سورية المقبلة وأسلحة الدمار الشامل

إذا كان السلاح الكيماوي لم يستخدم سلاحًا رادعًا لحماية الدولة والوطن، واستُخدم لحماية الحاكم والنظام، فهل سورية المقبلة ما زالت في حاجة إلى هذا النوع من الأسلحة؟ سؤال مشروع يجري طرحه أمام ما جرى في سورية، وأمام ما يمكن أن يجري مستقبلًا.

 

كان يُعتقد أن الأسلحة الكيماوية، وأسلحة الدمار الشامل كافة، توفر سياسة ردع على المدى الطويل ضدّ تهديدات وجودية إضافية، وبالتالي ضدّ التهديدات بهجوم تقليدي واسع، أو هجوم ينطوي على استخدم أسلحة نووية أو كيماوية أو بيولوجية. لكن، كان هذا السلاح، بالنسبة إلى النظام السوري، مخصّصًا من أجل استخدامه ضدّ شعبه، وليس ضدّ العدو الخارجي!

 

من هنا، فإن اعتماد سياسة مستقبلية تتوجه نحو نزع أسلحة الدمار الشامل في المنطقة، وعلى مستوى العالم، بات أمرًا ضروريًا للمحافظة على النوع البشري وإنجازاته الحضارية.

 

إن إعادة طرح هذا الملف اليوم، في الذكرى السنوية الثالثة للجريمة المرتكبة، التي وقعت بحق الشعب السوري، يضع صدقية المجتمع الدولي على المحك، ويُعيد إلى الواجهة مسألة الخذلان التي مورست في حق هذا الشعب، وحالة الإهمال المتعمد التي تجري، كما يطرح الصدقية للمستقبل، وكيف يمكن للمجتمع الدولي أن يتلاعب بمصير البشر، فيما لو وقعت مثل هذه الواقعة في أماكن أخرى من العالم.

 

إن محاسبة النظام السوري، وجميع المجرمين الذين يقومون بمثل ما قام به، أمر مهم جدًا، ليس على المستوى السوري فحسب، بل على مستوى البشرية جمعاء، لأن جرائم كهذه لا تذهب بالتقادم، وتظل ماثلة للعيان، وشاهدة أمام الجميع على تقاعس العالم حتى تأخذ العدالة مجراها، ويعاقب الجاني والمجرم، رئيسًا كان أم ضابطًا أو أمير حرب.




أخر ما نشر