دارنا العربية 18
الجمعة 6 يناير / كانون الثاني 2017 16:54
توفيق الحلاق
دارنا العربية 18
مَلَكَ ابن عمي مأمون دراجة حمراء جميلة ، وكنت أذهب إلي دار أهله في منطقة العمارة الجوانية القريبة من مقام السيدة رقية صباحاً ليقلني خلفه إلى مدرسة سيد قريش الصناعية ، فنصل إليها حوالي الثامنة إلا ربعاً وننتشر مع مائتي تلميذ في أرجاء ساحتها الفسيحة نتضاحك ونتصايح وصوت فيروز يملأ الأرجاء قبل أن يقرع جرس بداية الدراسة في تمام الساعة الثامنة . كان نهاري يبدأ في السادسة حيث توقظني أمي مع إخوتي وأخواتي ، فنهرع إلى المغسلة الغائرة وسط جدارغرفتنا تحت إحدى النوافذ الغربية المطلة على أرض الدار والطابق الثاني بغرفتيه وممشاه وسوره الحديدي الأسود المجدول على شكل وردات وأغصان ووريقات . وإذن فقد كانت المغسلة في نفس غرفة نومنا التي هي ذاتها غرفة الجلوس والضيوف ، وكثيراً ما يسبق أحدنا الآخرفيعلو الصياح ، وقد تنشب معركة بسبب تخطي إحدى أخواتي الدور، مايستدعي تدخل أمي لإنصاف المظلومة فيما يقطر الماء من يدي الأخرى ووجهها على البساط فيعلو صوت أمي : ( ياأمي الله يرضى عليكن ، خليكن في الدور مشان ماتتخانقوا وتبلبلوا البساط وتنزعوا صباحكن ) بعد ذلك نتحلق على البساط الملون حول مائدة الطعام (السفرة) وكانت طبقاً واسعاً مستديراً من القش ترتب أمي على محيطه زباديَ وصحوناً صغيرة تحتوي الزيتون والجبنة واللبنة والمكدوس والزيت والزعتر. ويتوسط الطبق صحن البيض المقلي الكبير. فتمتد الأصابع المعقوفة كالمخالب إلى أرغفة الخبز فتمزقها وتحيلها إلى قطع صغيرة نكورها مثل الملعقة أو( أذن ديب ) ونستل الطعام على عجل قبل أن ننصرف كل إلى مدرسته . كانت اللغة الإنكليزية لها درس واحد أسبوعي كما هوحال درس القومية ودرس الموسيقى ودرس الرياضة ودرس الديانة ، وكانت جميعها تأتي في المرتبة الثالثة من الأهمية بعد اللغة العربية والرياضيات والهندسة والفيزياء والكيمياء والجغرافيا والتاريخ . وكنا لانبالي إن غبنا عن دروس تلك المواد فهي غير مرسبة من جهة ويمكن دراستها والنجاح فيها في الشهرين الأخيرين من العام الدراسي . بالنسبة لي فقد عانيت من فهم مادة القومية إذ إن تعبيرات كتاب القومية كانت تشبه الطلاسم التي يكتبها المشعوذون في (الحجب والرقي) ولولا أني ابن عائلة مسيسة لكنت رسبت فيها كل السنوات ، ولقد وجدت حلاً للنجاح بأن أجيب على أسئلة امتحانها بلغة معقدة مثلها كنت أحفظهامن كتب ماركس ولينين المتوفرة عند جارنا في الدار أبوعلي ، والملفت أنني كنت أحصل على علامة 19 من 20 فاعتمدت هذه الطريقة الناجعة في كل سنوات دراستي الإعدادية والثانوية والجامعية وحصلت على نفس الدرجات الممتازة . أما مادة اللغة الانكليزية فقد ولي َّعليها أستاذ متقاعد اشتعل رأسه شيبا كما فقد تركيزه ، وهو إلى ذلك لايحب الوقوف أوأنه لايقدر عليه ، دائم التثاؤب ، شديد الانفعال غادرته الابتسامة منذ ولدته أمه . ولذلك فقد اكتفى في الحصة الأولى بأن كتب الأحرف الانكليزية على السبورة ثم جعلنا نرددها وراءه ثم نكتبها على دفاترنا ، بعد ذلك تجول بيننا فنال معظمنا صفعةً على رقبته لأنه لم يرسم الحروف بشكل صحيح ، ولم يلفظها كما يريد . وهكذا وصفنا : ( شعب حمير مابيفهم بالعربي حتى يفهم بالانكليزي ، أصلاً اللي قرر تعليمكن الانكليزي أحمر منكن ، يالله طَخوا روسكن على المقاعد وناموا ، يقطع عمركن ، بهايم ) وكان وجهه أثناء ذلك يزداد احمراراً على احمراره الأصلي ما دفع زميلنا المرح قصي إلى تشبيهه بالبندورا . وهكذا فأنا لاأتذكر اسمه الأصلي أبداً . مادتي المفضلة كانت : التعبير، وكان لها حصة أسبوعية واحدة مدتها ثلاثة أرباع الساعة مثلت لي الدوحة التي أغرد فيها وأشدو . كان أستاذنا لهذه المادة ولمادتي القواعد والاستظهارالشاعر المعروف محمد الحريري ، ولقد كان طويلاً وسميناً جداً مايجعله يكافح ببطنه درفة الباب المفتوحة ليتمكن من الولوج وقد اعتراه التعب وضاق نفسه . ولذلك كنت أهرع إلى الباب فأفتح درفتيه ليدخل بسهولة ، فيضحك التلاميذ ، فيما هو يداري خجله قائلاً لي بلحن غنائي : ( تنفية حلوو ) هكذا تحول اسمي على لسانه كي يضحك رفاقي مني بدلاً منه . ولطالما أدهشت زملائي بالموضوعات التي كنت أكتبها في الوظيفة البيتية ، ولأن الأستاذ محمد كان واثقاً من أدائي فقد كان يستمع إلى موضوعات التلاميذ قبلي ، فيحللها ويشير إلى مواضع الخلل في قواعدها وأسلوب قصها فيرشدهم إلى الأفضل ، وكان كلما انتهى من تقييم أحدهم صاح : امسكوا أقلامكم واكتبوا هذه الفائدة . أذكرأني ملأت دفتراً كاملاً بتلك الفوائد الإعرابية رافقتني سنوات طويلة . كان في العشر دقائق الأخيرة يطلب إليَّ قراءة النص الذي عندي . وحين أنتهي يعقب بسرعة كي لايثير غيرة رفاقي : ( جيد حلاق ، خذوا أقلامكم واكتبوا وظيفة الأسبوع القادم ) مع ذلك فإن أغلب التلاميذ كانوا يظنون أني أنقل وظيفتي من كتب نجيب محفوظ ومصطفى لطفي المنفلوطي أو من مجلة ما كما صاح قصي بجرأة : ( أستاذ أنا متأكد أنو توفيق عم ينقل من المجلات ) ردَّ عليه الأستاذ محمد : ( حاول يابني أن لاتتهم غيرك دون دليل ، أنا أثق بكم جميعا ولاأشك بأن توفيقاً يكتب بذاته من ذاته ) . وأذكر يومها أني رجوت الأستاذ أن أكتب الوظيفة فوراً وقبل الانصراف بخمس دقائق كي أثبت لرفاقي أنني لاأنقل من أحد . ولما سمح لي وفعلت . مدَّد الأستاذ الدرس خمس دقائق أخرى لأقرأ ماكتبت ، فقرأت . وكان أن طلب من قصيَّ الاعتذار لي فاعتذر على مضض لكنه بعد انصراف الأستاذ اقترب مني وقال : ( وحياة راس أمي إنتي حافظن هدول اللي كتبتون ) .



أخر ما نشر