السوريون والحب عبر الأثير
الأثنين 24 أبريل / نيسان 2017 22:37
رانيا توفيق الحلاق
السوريون والحب عبر الأثير
كانت جارتي تصطحب فتاة جميلة، لم أرها من قبل، عرَّفتني إليها: "هذه الجميلة حبيبة ابني”، واستطردت ضاحكة: "لقد تعرّفها عن طريق مواقع التواصل”.

لم يكن الأمر مفاجئًا لي، بالطبع؛ فقد غدت قصص الحب والخطوبة والزواج عبر وسائل التواصل الاجتماعي شبه عادية، وتحدث كل دقيقة حول العالم، وخصوصًا في الدول الغربية؛ حيث تأخذ الدراسة والعمل معظم وقت الشابات والشبان، وباتت تلك الوسائط الافتراضية الإلكترونية أساسية عند معظمهم لبناء العلاقات العاطفية.

قالت جارتي ردًا على سؤالي عن الطريقة التي تعرّف ابنها -من خلالها- حبيبته: "ببساطة كتب في صفحته الشخصية معلومات عنه، ووضع كثيرًا من الصور الفردية والجماعية التي تضم أفراد أسرته ورفاقه، وبدأ رحلة البحث عن شريكة ملائمة”؛ تدخلت الفتاة بلطف ومرح: "وأنا أيضًا فعلت الشيء نفسه، وهو بادر بالحديث وأنا تجاوبت معه، فقد كنا متشابهين في كل شيء”.

عادت جارتي لتُكمل القصة من دون أن تخفي فرحها: "إنهما في قمة التفاهم، ويخططان للزواج في الصيف المقبل”.

قد يبدو مثل هذا السلوك طريقًا محفوفة بالمخاطر! فكيف يمكن الخروج للقاء شخص لا نعرف عنه سوى ما وصل عبر المحادثة، وقد يكون ملفقًا، وكيف لفتاة أن تعرف إن كان حبيبها الافتراضي ليس لصًا أو مدمن مخدرات أو مخادعًا؟

لكن، ومع تلك المخاوف المنطقية، فإن تجارب كثيرة للتعارف الإلكتروني أثبتت نجاحها، وانتهت إلى الزواج. هذا الأسلوب من التعارف يشبه إلى حد كبير ما كان يُعرف في مجتمعاتنا العربية "بالخطّابة”، التي كانت تتنقل من بيت إلى آخر؛ بحثًا عن العروس الملائمة، وفق لائحة تتضمن طلبات العريس وأهله، إلى أن تجد من تلبيها، فيجري التعارف ثم الخطوبة فالزواج.

السوريون الذين هجّرتهم الحرب الطاحنة المستعرة منذ عام 2011 إلى أصقاع الأرض، وجدوا في وسائل التواصل الاجتماعي وسيلتهم السهلة والمجانية؛ ليتعرفوا إلى أخبار ذويهم وأصدقائهم، من جهة، وليبنوا -من جهة أخرى- صداقاتٍ جديدة مع أشخاص، سوريين بخاصةٍ، وعرب وأجانب أحيانًا، لم يلتقوا بهم من قبل، وكثيرًا ما تتطور تلك الصداقة إلى علاقة حبٍ بين الجنسين، قد تنجح، وكثيراً ما تفشل؛ لأن بناء علاقة عن بعد يُعرضها إلى خطر الانزلاق إلى الانجذاب العاطفي الذي غالبًا ما يتجاوز الواقع إلى عالم الوهم، فكيف تحكم الفتاة على شاب لم تلتق به شخصيًا ولا تعرف عنه إلا ما أراد لها أن تعرف؟ والأمر نفسه ينطبق على شاب قد تخدعه فتاة، ويحدث أن يتقمص شاب دور فتاة، أو تتقمص فتاة شخصية شاب، وما يمكن أن ينتج من ذلك من مشكلات اجتماعية وإحباطات نفسية.

إن بناء علاقة عاطفية عبر وسائل التواصل الاجتماعي قد تقود الطرفين إلى اتخاذ قرار متسرّع؛ للارتباط بالزواج، قبل أن يلتقيا على أرض الواقع، ليتعرف كل منهما سلوك الآخر في حياته اليومية، وكيف يتصرف حيال المواقف الصعبة، وهل يروق لأحدهما مزاج الطرف الآخر في تفاصيل صغيرة، لكنها مهمة، مثل النظافة وطريقة تناول الطعام والعلاقات الاجتماعية؟ العلاقة التي تبنى عبر "فيس بوك” وسواه أساسها توافق ثقافي وروحي ربما، وربما اعتمدت على جاذبية الطرف الآخر وجماله، لكن علاقة الارتباط بالزواج تحتاج إلى الاختبار العملي كي تنجح.

في المدن الكبيرة، كمدينة لندن التي يقطنها 8 ملايين نسمة، أغلبهم يعمل ساعات طويلة في أثناء النهار، ويُعانون من ضيق في أوقات الفراغ، يمكن أن يعيش الإنسان ضمن إطار اجتماعي محدود، قوامه الزملاء والأصدقاء المقربون فحسب، ويصبح احتمال اللقاء بالشريك الملائم ضئيلًا جدًا؛ لذا، يتجه أغلب الشبّان والشابات إلى مواقع التواصل، يشتركون في مبلغ بسيط؛ ليتكمنوا من خلالها البحث عن شريك يملك مواصفات تلائمه.

أعرف كثيرًا من الأصدقاء الذين نجحوا في إقامة علاقات أفضت إلى الزواج من خلال تلك المواقع، وكان سبب نجاحهم أنهم التقوا بالشركاء الافتراضين شخصيًا ولعدة مرات، وإن لم يتوافقوا، عادوا إلى البحث عن بدلاء يلائمونهم، بينما في مجتمعاتنا، وبحكم العادات والتقاليد والممنوعات الدينية، تتجه العلاقات إلى أن تكون سرّية، ومن ثَم؛ قد يُتخذ قرار الزواج قبل اللقاء المباشر؛ ما يُعرّض تلك التجارب للفشل غالبًا، وعامل البعد، واستحالة اللقاء بين طرفي العلاقة؛ لأسباب تتعلق بقوانين وأنظمة الدول، تجعل من العلاقة أشبه بعلاقة سجينين في قفصين متباعدين، لا أمل في لقائهما.

ليست هناك قواعد دقيقة لنجاح أي علاقة، سواء كانت عاطفية أم صداقة فحسب، لكن الخلطة السحرية لنجاحها تكمن بالدرجة الأولى في التوافق الفكري والحالة الاجتماعية المتقاربة، إضافة إلى تأنّي الطرفين في الاختيار الملائم، ومن ثم؛ بناء أساس متين يعتمد اختبار الطرفين بعضهما لبعض في المواقف الصعبة التي يتعرضان لها، سواء أكانت اجتماعية أم مادية.

إن نظرة سريعة إلى مواقع التواصل الاجتماعي ستجعلنا نجد كثيرين ممن يبحثون عن الحب أو الصداقة تعويضًا عن واقعهم المرير، أو للتخلص من ذكرى تجارب سابقة فاشلة؛ ما يدفعهم إلى اختيارات عشوائية، قد تزيد من معاناتهم بدلًا من أن تُخلّصهم منها، وكثيرون يقعون في فخ الكم وليس النوع، حين يسعون إلى استقطاب أكبر عدد ممكن من المعجبين، غير مكترثين بماهية أولئك الأشخاص، ليكتشفوا بعد مدة أنهم باتوا عبئًا عليهم في تعليقاتهم الساذجة أو المُسفّة، أو برسائلهم المريضة على "الخاص”، ليبدؤوا بإلغاء صداقتهم أو حذفهم، ولا يمكن لعدد الأصدقاء أن يزيد من ثقتنا بأنفسنا، بل ما يسعد عقلنا وعواطفنا هم أولئك الأشخاص الواعون المتحررون من عقد الجنس والأفكار البالية والغيرة المَرَضيّة.

أخيرًا، فإن العلاقات العاطفية وعلاقات الصداقة الحقيقية لا تأتي بسهولة من خلال هذه المواقع، ولكي تنجح؛ لابد من أن تنتقل من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي.



أخر ما نشر